مقالات جديدة
الحُساد عل ابي حنيفة, قلة العربية و قليل الرواية
  تعليم الاسلام
  October 23, 2017
  0

قلت: وهو مع ما اشتمل عليه من الصواب في الجواب لا يخلو من شائبة التعصب، حيث جزم بأن الإمام رضي الله تعالى عنه كان قليل العربية، بمجرد كلمة صدرت منه على لغة أهل بلده، واستعملها غير واحد ممن يحتج بقوله في شعره، والحال انه لم ينقل عن أحد من أهل اللغة وحملة العربية، أنه قال: إن كل من تكلم بكلمة غير فصيحة في عرض كلامه، على لغة أهل بلده وهي غير شاذة، ولم يدونها في كتاب من كتبه، يكون لحاناً قليل العربية. هذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، مع كونه ممن يحتج بقوله في اللغة، قال في بعض تآليفه: " ماء عذب أو مالح " ، فقال: " مالح " ولم يقل " مِلح " وهي لغة شاذة، أنكرها أكثر أهل اللغة، ولم يقل أحدٌ في حقه بسبب ذلك، إنه كان قليل العربية واللغة، ولكن جرى الأمر في ذلك على قول الشاعر:

 

وعَينُ الرِّضَا عن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلةٌ ... كما أنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاويَا


وقد ذكر بعض من صنف في مناقب الإمام الأعظم، في حق الإمام الشافعي مِن مثل هذه المؤاخذات شيئاً كثيراً، أضربنا عن ذكره، لعدم الفائدة، ولأن الأليق بكل إنسان أن يكُف لِسانه عن التكلم في حق مثل هؤلاء الأئمة، الذين اتفق الناس على علمهم، وصلاحهم، وعلو مقامهم، إلا بخير، فإنه قلما أطلق أحد لسانه في حق السلف، إلا وعُجلت له النكبة في الدنيا قبل الآخرة، عَصمنا الله من ذلك بمنه وكرمه.

 

 

اسماء ائمة الاربعة في مسجد النبوي 

 

قليل الرواية منه
ومن جملة التشنيعات في حق الإمام، رضي الله تعالى عنه، قول بعض الحُساد: إنه كان قليل الرواية، وليس له إحاطة بكثير من الأحاديث والآثار، كغيره من مُجتهدي عصره، ومن تأخر بقليل عنهم.

 

والجواب عن ذلك هو المنع؛ بدليل أن أبا حنيفة، رضي الله تعالى عنه، كان أكثر الناس تفريعاً للأحكام، ووضعاً للمسائل، وكثرة الفروع تدل على كثرة الأصول، وصحتها على صحتها، وقد سلموا أن أبا حنيفة أقوى في القياس من غيره، وأعرف به من سواه، وإنما يُقاس على الكتاب والأثر، وكثرة قياسه في المسائل تدل على كثرة اطلاعه على الآثار، وكثرة إحاطته بها.

 

وإنما قلت الرواية عنه لما ذكرناه سابقاً، من كونه كان يشترط في جواز الرواية حفظ الراوي لما يرويه من يوم سمعه إلى يوم يُحدث به، ولأنه صاحب مذهب، نصب نفسه لتدوين الفقه، وإثبات الأحكام، وتفقيه الناس وإفتائهم، وهذا لا يدل على أن ما كان يرويه عن غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان قليلاً؛ لأن صاحب المقالة والمذهب، إذا أنهى إليه الخبر، أخذ حكمه المشتمل عليه، فدونه، وأثبته عنده، وجعله أصلاً ليقيس عليه نظائره؛ فمرة يفتى بحكمه ولا يروى الخبر، فيخرجه على وجه الفتوى، فيقف لفظ الخبر، وينقطع عنده. وكذا فعل أكثر فقهاء الصحابة؛ كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وزيد، وغيرهما، من فقهاء الصحابة، رضي الله عنهم.

 

ويدلك على هذا، أن الخلفاء الأربعة صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبعثه إلى وفاته، وكانوا لا يكادون يُفارقونه في سفر ولا حضر، وكذلك عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر؛ وأبو هريرة أكثر رواية منهم، وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما سمع هؤلاء، أو شاهد أكثر مما شاهد هؤلاء!!، وقد روى الناس عنه أكثر مما رووا عنهم!! وإنما كان كذلك؛ لأن الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، كانوا فقهاء الصحابة، وكانوا أصحاب مقالات ومذاهب، وكذلك عبد الله بن مسعود، وكانوا يفتون بكل علم صدر عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن فعله، فيخرجونه على وجه الفتوى، ولا يروونه، وربما رواه البعض منهم عند احتياجه إلى الاحتجاج به على غيره ممن خالفه من نظرائه.

 

وهذا هو المعنى في قلة رواية ذي المقالة والمذهب عن النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وقلة روايتهم عنه.

 

وأما هو فقد سمع من الأخبار، وجمع ما لم يحط به غيره؛ فإن الأخبار منها ناسخ ومنسوخ، ومثبت وناف، وحاظر ومبيح، ونحو ذلك، فإذا ورد جميع ذلك إلى صاحب المقالة نظر فيها، وأخذ بالناسخ منها، وهو المتأخر، فإن لم يعلم المتأخر، أخذ بارجحهما عنده، وترك الآخر، فإذا أخذ المتأخر أو ما رجح عنده، فربما رواه، وربما أفتى بحكمه، ولم يروه، وأسقط ما نافاه، ولم يلتفت إليه، وأصحاب الحديث يرون الجميع؛ فلهذا قلت رواية الخلفاء الأربعة، ومن بعدهم من الفقهاء.


وقد يرد أيضاً الخبر من طرق كثيرة، فيقتصر صاحب المذهب منه على أصح الطرق، فيرويه منها، وربما أفتى بحكمه ولم يروه. وأصحاب الحديث يروونه من جميع طرقه، فلهذا قلت الرواية عن الفقهاء أولى المقالات.

قال أبو بكر عتيق بن داود اليماني: فإن قال قائل: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بلغوا عني ولو آية " ، وقال عليه الصلاة والسلام: " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه " . قيل له: إذا أفتى بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو بما فعل، فقد بلغ أشد التبليغ؛ لأن صاحب المقالة والمذهب، يلزمه أن لا يرةى جميع الأخبار المُتنافية، لأن ذلك يؤدي إلى تحير من يستفتي، ولا يحصل له التخلص مما نزل به من الحادثة، فإذا أفتاه بالصحيح عنده، أو رواه، حصلت للمُستفتي الفائدة، وفي هذا كفاية لكل ذي بصر.

 

فهذا يدل على أن قلة الرواية عنه، لا تدل على قلة ما نقله من الأخبار والآثار، عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

 

هذا، ولئن سُلم ما زعمه المُشنع من قلة الرواية، فجوابه أنا نقول: قال أبو عمر بن عبد البر: الذي عليه جماعة " فهاء " المسلمين وعُلمائهم ذم الإكثار - يعني من الحديث - دون تفقه ولا تدبر، فالمكثر لا يأمن من مواقعة الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

 

ثم روى بسنده، عن قتادة، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم وكثرة الحديث، ومن قال عني فلا يقولن إلا حقاً " .

 

وروى بسنده أيضاً، عن وهب بن بقية، قال: سمعت خالد بن عبد الله، يقول: سمعت ابن شبرمة، يقول: أقلل الرواية نفقة.

 

وقال أيضاً: أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عَصرنا " اليوم " ، دون نفقة فيه، ولا تدبر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم.

 

ثم ذكر بعد كلام طويل، قول الأعمش لأبي يوسف: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة.

 

ومن ها هنا قال الترمذي: إن من يحمل الحديث ولا يعرف فيه التأويل كالصيدلاني.

 

وعن ابن المبارك، أنه قال: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث.

 

ولله در بعضهم حيث يقول:


إن الرُواةَ على جَهْلٍ بما حَملوُا ... مثلُ الجِمَال عليها يُحْمَل الوَدَعُ
لا الوَدْعُ يَنفْعهُ حَمْلُ الجمالِ له ... ولا الجمالُ بِحَمْل الوَدْع تنتفعُ


وقال ابن أبي ليلى: لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويَدَع.

الطبقات السنية في تراجم الحنفية / تقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري الغزي رحمه الله